شبكة قدس الإخبارية

مشاركة الولايات المتحدة في ضرب إيران: صراع بين مدرستين 

٢١٣

 

مشاركة الولايات المتحدة في ضرب إيران: صراع بين مدرستين 

ترجمة خاصة - قدس الإخبارية: اعتبر الجنرال الاحتياط في جيش الاحتلال داني بيران، أحد أبرز رموز التيار القومي الديني في “إسرائيل”، أن قرار الولايات المتحدة بالمشاركة الفعلية في الهجوم الإسرائيلي على إيران وقصف منشأة فوردو النووية، يمثل فرصة تاريخية لفهم التوتر المستمر داخل القيادة الأميركية بين مدرستين متناقضتين: النزعة الانعزالية التي تفضّل التركيز على الداخل الأميركي وتجنب التورط في نزاعات بعيدة، والمدرسة الإمبراطورية التي ترى في أميركا زعيمة للعالم وراعية للنظام العالمي.

وأشار بيران إلى أن موقع الولايات المتحدة الجغرافي خلف المحيط الأطلسي، شكّل على مر التاريخ أساسًا قويًا لنزعتها الانعزالية. ففي خطابه الوداعي، دعا الرئيس الأول جورج واشنطن إلى تجنب الانخراط في صراعات أوروبا، وهي رؤية تعززت لاحقًا بـ”مبدأ مونرو” عام 1823، الذي رسّخ رفض أميركا لأي تدخل أوروبي في نصف الكرة الغربي مقابل امتناع واشنطن عن التدخل في نزاعات القارة العجوز.

مع ذلك، فإن هذا التيار الانعزالي واجه دومًا مقاومة داخل القيادة الأميركية، خصوصًا من أولئك الذين اعتبروا أن حماية المصالح الأميركية تقتضي أحيانًا استخدام القوة خارج الحدود. ويظهر هذا التباين بوضوح اليوم في الانقسام داخل الحزب الجمهوري بين أنصار تيار “أمريكا أولًا” المرتبطين بترمب، الداعين إلى عدم التدخل في النزاعات الخارجية، وبين الجناح الصقري في الحزب الذي يدعو إلى قيادة أميركية حازمة للعالم.

ويرى بيران أن مراجعة لتاريخ الحروب الكبرى تظهر أن الولايات المتحدة غالبًا ما تبدأ بالموقف الانعزالي، لكنها تنجرف لاحقًا نحو التدخل تحت ضغط أحداث كبرى تُشكّل خطرًا استراتيجيًا أو تمس هيبتها الدولية.

هكذا كان الحال في الحرب العالمية الأولى. فبعد سنوات من الحياد، دفعت برقية “تسيمرمان” – التي اقترحت تحالفًا بين ألمانيا والمكسيك ضد أميركا – إلى تحول دراماتيكي في الموقف الأميركي. الرئيس وودرو ويلسون، الذي انتُخب بناءً على تعهده بإبقاء البلاد خارج الحرب، اضطر إلى إعلانها في أبريل 1917 بعد أن كشف البريطانيون مضمون البرقية وارتفعت النزعة المعادية لألمانيا في الرأي العام.

لكن بيران يوضح أن هذا التدخل لم يُلزم الولايات المتحدة بمسار دائم، إذ عادت إلى نزعتها الانعزالية في الفترة بين الحربين، ورفضت الانضمام إلى “عصبة الأمم” رغم أن الرئيس ويلسون نفسه كان من أبرز مؤسسيها. الانهيار الاقتصادي في 1929 وما تبعه من “الكساد الكبير” عزز هذه النزعة، في ظل انشغال الأميركيين بمشكلاتهم الداخلية وتصاعد القلق من التورط في صراعات لا ناقة لهم فيها.

في بداية الحرب العالمية الثانية، حافظت أميركا على حياد رسمي. لكنها دعمت بريطانيا ببرنامج “الإعارة والتأجير”، ثم دخلت الحرب بالكامل بعد الهجوم الياباني على بيرل هاربر في ديسمبر 1941. ويعتقد بيران أن المساعدة الأميركية بدأت فعليًا قبل ذلك بكثير، وأن القصف الياباني كان فقط اللحظة التي جعلت التدخل لا مفر منه.

انتصار الحلفاء بدعم أميركي ساحق، ومشاهد الخراب في أوروبا وآسيا، جعلا من الولايات المتحدة القوة العالمية الأولى. وبعد الحرب، لم يعد الانعزال خيارًا واقعيًا. انطلقت الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفياتي، ووجدت واشنطن نفسها في صراع أيديولوجي وجيوسياسي حاد، تخلله تدخل مباشر في كوريا، وأزمة الصواريخ الكوبية، ثم التورط الكارثي في فيتنام.

يقر بيران بأن تجربة فيتنام شكلت نقطة تحول مؤلمة، إذ رسخت في الوعي الأميركي كلفة التورط في حروب بعيدة ومعقدة. لكنها لم تمنع واشنطن من الاستمرار في لعب دور عالمي، خصوصًا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.

مع انتهاء الحرب الباردة، أصبحت الولايات المتحدة القوة العظمى الوحيدة، وأعادت تشكيل علاقاتها الدولية على هذا الأساس. قادت حرب الخليج الأولى ضد العراق عام 1991 بدعوى حماية القانون الدولي واستقرار أسواق الطاقة، ثم اجتاحت العراق مجددًا عام 2003 بحجة القضاء على أسلحة الدمار الشامل، رغم أن هذه الحجة تبيّن لاحقًا أنها كانت واهية.

الهجمات التي وقعت في 11 سبتمبر 2001، بحسب بيران، كانت لحظة شبيهة ببيرل هاربر في آثارها النفسية والسياسية. تحت شعار “الحرب على الإرهاب”، غزت الولايات المتحدة أفغانستان وأطاحت بنظام طالبان، ثم انخرطت في معركة طويلة ضد تنظيم القاعدة، قبل أن تعود لاحقًا إلى محاولة الانسحاب وتقليص التورط العسكري.

قرار واشنطن الأخير بمشاركة سلاحها الجوي في الضربات على منشأة فوردو النووية، إلى جانب سلاح الجو الإسرائيلي، يعكس في نظر بيران أن أميركا لم تتخلّ عن دورها العالمي. رغم كل الحديث عن إعادة التموضع، تبقى مستعدة للتدخل عندما يُهدد أمنها أو أمن حلفائها، خاصة عندما يتعلق الأمر بملف النووي الإيراني الذي طالما شكّل خطًا أحمر للإدارات الأميركية المتعاقبة.

ويعتقد بيران بأن كل تدخل أميركي في حرب أو أزمة كبرى، كان يستند إلى ظرف أو ذريعة آنية، لكنه يعكس في العمق تصورًا أميركيًا ثابتًا يرى في الولايات المتحدة الضامن الوحيد للنظام العالمي، حتى وإن لبست مواقفها أحيانًا ثوب الانعزال أو الحذر التكتيكي. فالرسالة واضحة، كما قال تشرشل ذات مرة: “مسار التاريخ غالبًا ما يتغير بسبب أمر بسيط، إن لم يكن شكًّا طارئًا، فربما برقية التُقطت في اللحظة المناسبة”.